الخط العربي ..تطوره و أعلامه

د.عبدالباسط البيرم

      الخط العربي إرث حضاري كبير، تميزت به أمتنا الإسلامية منذ القدم، وإذا كان هذا الفن الجميل قد مر بسلسلة من التطورات والتغييرات حتى تكاملت صورته على ماهي عليه الآن ، فإن الفضل في ذلك يعود لله أولا ثم لتلك الأيادي الأمينة التي حباها الله بهذه النعمة العظيمة لتحافظ على كنز من كنوز حضارتنا مازال شامخا يضاهي بروعته وإعجازه كل فنون الأمم الأخرى. ولعل التاريخ يسجل بصفحات من نور انتصار الحرف العربي على حروف أمم الأرض حيث حل ، وهو الذي حمل نور القرآن الكريم إلى مجاهل العالم شرقا وغربا لتفتح الشعوب أعينها على هذا الهدي الرباني الأصيل الذي كتب بحرف عربي صرف كان مجدا للفنان الخطاط المسلم الذي نمقه وجوده ليبلغ ذروة كماله ويصل لنا عذبا سائغا لذة للناظرين!

                 الخط روح الكاتبين وروضـــة                      للنفس تسبح حولها الأرواحُ

                 نثر اسمه الخطاط في جنباتهــا                      وبراحتــيه عطــرها الفـواحُ

                                                       *     *     *

       هذي خطوط الفاتحين وقد علت                   راياتهـــا في شامــخ الجـــوزاءِ

       اكتب بدمع العاشقين قصــــائدا                   بالنســـخ والثــلثـي والطغــــراءِ

       قـلــم يصــوغ لآلـئـــا بمـــداده                   وسنا الحروف جواهر الحسناءِ

       (شعر الخطاط عبد الباسط البيرم)

   إن معرفة الجذور التاريخية للخط العربي وأول من خط العربية يكاد يكون ضربا من المستحيل، وذلك لعدم وجود الأصل التاريخي العلمي الموثق الذي يمكن الاعتماد عليه. فمن المؤرخين من يرجع أصل الحرف العربي إلى آدم عليه السلام لقوله تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ) ، فالخط العربي  أمر توقيفي من الله عز وجل عرفه آدم قبل موته بثلاثمائة عام، فعن أبي ذر الغفاري –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول من خط بالقلم بعد آدم عليه السلام ، إدريس عليه السلام.

 إلا أن هناك من يرى أن حضارة اليمن في القرنين الأول والثاني قبل الميلاد والتي بسطت سيطرتها على الجزيرة العربية كانت تكتب باللغة الحميرية السائدة بنوعين من الخطوط: المسند الذي كتب بحروف منفصلة والمشتق الذي دونت به النصوص الثمودية والصفوية واللحيانية ، وهو خط عربي طوره المناذرة فيما بعد ونقلوا رسمه إلى مكة والطائف.

 وتشير الروايات التاريخية إلى أن أصل الهجاء في حروف اللغة العربية مأخوذ عن الخط السرياني المشتق من خط المسند القديم. يروي البلاذري –كما في صبح الأعشى للقلقشندي- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ثلاثة من قبيلة طي وهم ( مرامرة بن مرة ، وأسلم بن سدرة ، وعامر بن جدرة ) قاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية ، فتعلم قوم من أهل الأنبار ، ثم تعلم عن هؤلاء قوم من أهل الحيرة. وكان بشر بن عبد الملك الكندي يأتي الحيرة فيقيم فيها فتعلم الخط العربي من أهلها ، ثم أتى مكة فرآه سفيان بن أمية بن عبد شمس وأبو قيـــس بن عبــد منــاف بـن زهــرة بن كـلاب يكـتـب، فســألاه أن يعلمـهـمـا الهجـاء ففعل ، ثم أتى بشر بن عبد الملك وأبو قيس الطائف في تجارة لهما يصحبهما غيلان بن سلمة الثقفي الذي تعلم الخط منهما ، فتعلم الكتابة منهم نفر من أهل الطائف ، ثم رحلوا إلى الشام حيث تعلم الكتابة منهم أناس كثيرون.

وهناك رواية ترجع الخطوط في العالم لأربعة أصول هي:

  • الخط المسماري  الذي استعمل في بابل وآشور وما حولهما ، وقد انقرض لصعوبة التعامل معه.
  • الخط الحيثي الذي كان سائدا في الشام وقد انقرض هو الآخر وحلت محله خطوط أكثر ليونة فيما بعد.
  • الخط الصيني وهو الخط المستعمل في جنوب شرقي آسيا وهناك أنواع منه لاتزال مستعملة إلى اليوم.
  • الخط المصري الذي اعتبره الباحثون أول حلقة من سلسلة الخطوط العربية والذي يقسم إلى ثلاثة أنواع هي: ( الهيروغليفي) والذي كان يقتصر تعلمه على الكهان فقط ، وخط الخاصة المسمى (هيراطيق) وهو خط عمال الدواوين وكتاب الدولة ، ثم خط العامة المسمى (ديموطيق) وهو أبسط الأنواع وأسهلها.  ومن الخط المصري أخذ الفينيقيون خمسة عشر حرفا مع بعض التعديل عليها وأضاف الكنعانيون باقي الحروف لتكون الكتابة سهلة ، فانتشرت منهم إلى أمم آسيا وأوربا ووصلت عن طريق التجارة إلى ممالك اليمن والآراميين في الجنوب والشمال من الجزيرة العربية.

وهكذا نرى أن الكتابة العربية مرت بأطوار مختلفة متدرجة عبر عصور موغلة في القدم، حيث يؤكد العلماء أن الخط العربي مر بسلسلة من التطورات بعد أن أخذ الفينيقيون الكتابة من المصريين القدماء، فنشأ خط “المسند” الذي كان منه “السرياني” ثم “الكوفي” ، ومن الفينيقي أيضا نشأ الخط “الآرامي” الذي اشتق منه “النبطي” والذي تطور بدوره إلى “الحيري” و “الأنبا ري” ، وكان منهما على التوالي “المجازي” و “النسخي”.

 ولو تتبعنا النقوش التي عثر عليها في أرجاء مختلفة من بلاد العرب لوجدنا أن أقدم النصوص التي ظهر فيها رسم الحرف العربي كانت في شمال الجزيرة العربية، وهي نقوش ثمودية ولحيانية ونبطية تعود إلى الفترة مابين القرنين الثالث والسادس الميلاديين. ومن بين أهم النصوص العربية الواضحة التي تم العثور عليها، نقش قبر

“امرئ القيس” الذي يعود تاريخه إلى سنة 328م، والذي عثر عليه في (النمارة) من جبل الدروز جنوب سوريا. أما أقدم من استخدم أدوات الكتابة فهم السومريون، حيث كانوا يستعملون الحديد والخشب، ومنهم أخذ المصريون طريقتهم في الكتابة، ثم انتشرت بعد ذلك لتصل إلى الصين والهند شرقا ، وإلى دول أوربا غربا.

 لقد كان المشرق طريق النور ومهد الحضارات. فمنه أخذ الغرب لغاته الآرية والتورانية، وحروف الأبجدية، وأخذ أرقام الحساب، ومنه تعلم صناعة العمران، ومنه أخذ دياناته الغابرة والحاضرة.

 رغم سبق الخط العربي لعصر النبوة بقرون عديدة، إلا أنه لا يدين بالكثير للفنون التي سبقت الإسلام شرقية كانت أم غربية، كما أنه لم يتأثر بفنون الأمم الأخرى بعد انتشار الإسلام، بل هو الذي أثر فيها شكلا ومعنى وزخرفة وإبداعا. وبقي الخط العربي يحافظ على شخصيته وتميزه، وكان رمزا عظيما للفن الذي بنيت عليه حضارة العرب والمسلمين. ولم يحظ فن أو خط في تاريخ الأمم بالرعاية والعناية والتفنن ما حظي به الخط العربي في مسيرته الطويلة عبر القرون.

 كان رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم على رأس الذين اهتموا بالكتابة، فأمر الشفاء بنت عبد العدوية أن تعلم زوجه حفصة رضي الله عنها الكتابة ليقتدي به المسلمون في تعليم نسائهم، كما جعل فدية الأسير المشرك الذي يعرف الكتابة أن يعلم عشرة من المسلمين لقلة من يعرف الكتابة منهم، ذلك أن العصر الجاهلي كانت تغلب عليه الأمية، فلم يعرف الكتابة منهم إلا أفراد قلائل، (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة).

 جاهد الأقدمون في القرنين الأول والثاني للهجرة للحفاظ على الخط العربي الذي كتب به القرآن الكريم ، واستبسلوا في سبيله أمام تيارات الاختلاط إبان الفتح الإسلامي حيث صمدوا مدافعين ومعلمين، خوفا على الأجيال المقبلة أن تفتح عيونها على القراءة الغلط واللحن الأعجمي الدخيل، وكان من هؤلاء الأعلام أبو الأسود الدؤلي، ونصر بن عاصم الليثي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وتلامذتهم، وهو ما رسخ العربية، وجدد الخط العربي، ونشر الدين، ومكن الملايين من المسلمين أن يتمسكوا بهذا الإرث الحضاري شرقا وغربا. 

  أما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان الكتاب يكتبون القرآن الكريم ورسائل النبي إلى الملوك والأمراء بالخط المكي أو الحيري. ومأثور أن المصحف العثماني ظل يقرأ أربعين عاما دون نقاط ودون حركات، حتى إذا ما امتدت الفتوحات الإسلامية ودخلت أمم غير عربية في الإسلام، ظهر اللحن والقراءة الغلط، فكان أن كلف الخليفة معاوية بن أبي سفيان أمير العراق زياد بن أبيه أن يطلب من أبي الأسود الدؤلي وضع علامات تدل على القراءة الصحيحة. وقد وضع أبو الأسود الدؤلي العلامات على شكل نقط، وبلون مختلف عن لون الكتابة، فوضع نقطة تحت الحرف كناية عن الكسرة، ونقطة فوقه للفتحة، ونقطة بأول الحرف للضمة، ونقطتين للتنوين.

 غير أن هذا الإصلاح لم يف بالغرض، إذ وقع اللبس في الحروف المتشابهة كالباء والتاء والثاء، والدال والذال، والصاد والضاد، فسارع الحجاج بن يوسف الثقفي في خلافة عبد الملك بن مروان إلى تكليف اثنين من تلاميذ أبي الأسود هما: نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر لعلاج هذا الأمر، فانتهيــا إلى وضع نقطة للباء في أسفلها، ونقطتين للتاء فوقها، وثلاث نقاط للثاء، وهكذا، لكنهما اختلفا في تنقيط حرفي الفاء والقاف، فقد قرر نصر – وهو من المشـرق – وضع نقطـة واحدة فـوق الفـاء، ونقطتين فوق القـــاف، وقرر يحيى – وهو من المغرب – وضع نقطة للفاء تحتها ، ونقطة واحدة للقاف فوقها، وهذا ما نلحظه في المخطوطات التي تعود إلى ذلك العصر.

 إلا أن الخليل بن أحمد الفراهيدي (94-162هـ) كان أوسع الناس علما بالعربية، وأكثر اطلاعا على ثقافات الأمم الأخرى، وهو مبدع علم العروض، ومعجــــم العربية الأول، فدل على الحركات المختـلـفـــة بعلامات من صــور

الحروف العربية نفسها، توضع بآخر الحرف. فالضمة واو صغيرة، والفتحة ألف أفقية منحدرة قليلا إلى اليسار، والكسرة ألف أفقية سفلية، والسكون دائرة مغلقة تشبه شكل الفم وهو مطبق، أما التنوين فهو تكرار الضمة أو الفتحة أو الكسرة مرتين. كما ابتكر علامة الشدة، وهمزتي الوصل والقطع، واستمرت طريقته في التشكيل حتى عصرنا الحاضر.

وبعد الفراهيدي ظل الخط العربي يرتقي ويتطور ويزداد حسنا ورونقا وتنوعا حتى قيل أن الخط الكوفي وحده تشعب إلى عشرات الأنواع منها: الأموي، والعباسي، والفاطمي، والأيوبي، والمملوكي، والأندلسي، والسلجوقي، والمكي، والمدني، والمربع، والمنظور، والمورق، والمزهر، والمبسوط، والمقور، والمظفور…، إلا أن الوزير العباسي الخطاط المبدع محمد بن مقلة استخلص بمساعدة شقيقه الخطاط عبد الله بن مقلة ستة أنواع رئيسة للخط، هي: الثلث، والنسخ، والتعليق، والريحان، والمحقق، والرقاع. وهكذا يتضح من تسميات أنواع الخطوط أن لكل نوع وظيفة: فخط النسخ مثلا يستعمل لنسخ القرآن الكريم وكتابة الأحاديث الشريفة ، والثلث لكتابة رؤوس الموضوعات التي تكتب بخط النسخ إضافة لعناوين الكتب والمقالات والقصائد ، والديواني لكل ما يصدر من كتابات من الديوان الحكومي ، والهمايوني –أو جلي الديواني-  لكتابة عناوين ما يكتب بالخط الديواني ، والتعليق –أو الفارسي- لكتابة القصائد والبطاقات وأسماء الشوارع والمتاجر ، والرقعة لكتابة الرقاع والمراسلات اليومية بين عامة الناس.

نشأ خط الرقعة من الخط الكوفي اللين ، ومن خصائصه أنه لا تركيب فيه ولا تشكيل ولا تفنن ولا حليات ولا زخارف إضافية ، فهو يحمل صفات السرعة في الأداء ، ويتم تعلمه وكتابته بسرعة دون زيادات تحسيــنية ، وهو مأخوذ عن الخط الديواني ، ويعتبر خط الرقعة من الخطوط المستحدثة قياسا بعراقة الأنواع الأخرى. أما الخط الديواني فيتميز بضيق مساحات حروفه وتقاربها من بعضها بل وتتداخل أحيانا لغاية جمالية ، وتستقيم حروفه على سطر واحد ، ويتميز برشاقة حروفه واستدارتها وطواعيتها ، ويعتبر الخطاط التركي ابراهيم منيف هو مخترع الخط الديواني وإليه يعود الفضل في وضع قواعده وذلك بعد فتح القسطنطينية ببضع سنوات. ويعتبر الخط الديواني أول خط كتب به الطغراء السلطاني. أما خط الطغراء فهو من مجموعة الخط الهمايوني ( وهي خط الطغراء والخط الديواني وجلي الديواني). وتذكر المصادر التاريخية أن السلطان المغولي تيمورلنك بعث بإنذار إلى السلطان با يزيد العثماني ، ووقع هذا الإنذار ببصمة كفه بعد أن لطخها بالدم ، وعقب وقوع السلطان بايزيد في الأسر في معركة أنقرة الشهيرة ، رأى ابنه السلطان سليمان بن بايزيد محاكاة بصمة تيمورلنك كما يفعل العظماء ، فأوعز إلى الخطاطين بابتكار شكـــل يكون رمزا لقوة السلطـان وهيبــته ، فقام هؤلاء بكتابة اسم السلطان سليمــان بن بـايـــزيــد على شكـل طائــر ( الطغراء) . وكلمــة طغـــراء تعني اسـم طائر أسطوري كان يعتبر الأقوى بين جميع الطيور في السماء.    أما الخط الكوفي فيتميز بالجفاف واستعمال الأدوات الهندسية ، ولا يحتاج تعليمه إلى نفس المرونة اليدوية التي تحتاجها سائر أنواع الخط العربي الأخرى. ومن هنا نجد أن بعض الكليات والمعاهد تدرس الخط الكوفي دون سواه من أنواع الخط العربي. كما أن حروفه غير متعددة الأشكال كمثيلاتها في الخطوط الأخرى ، فضلا عن إمكانية إدخال العناصر النباتية والأشكال الهندسية التي تضفي عليه لمسة جمالية أخاذة. أما الخط الفارسي فإن حروفه وكلماته تسير على نمط واحد بتحرك ظريف ، حيث تدق حروفه أحيانا وتصبح عريضة لا سيما في حالة المد. ويتميز الخط الفارسي بجمال دوائره واعتدال مداته وامتلاء حروفه ، وهو لا يشبه في قواعده أي نوع من أنواع الأقلام العربية الأخرى ، ولا ترسم له تشكيلات الكتابة العربية المعروفة.

 أما خط الإجازة فهو مزيج من النسخ والثلثي ، ويكتب هذا النوع في الإجازات التي يمنحها الخطاطون لتلامذتهم، وفي الشهادات العلمية ومقدمات كتب الخط ، وتمتاز حروفه بالمرونة والحليات الشعرية لا سيما في رؤوس الألف واللام والكاف ، وقد يشبك الألف باللام أو الكاف من حليته العليا ، أو من نهايته السفلية. وأما خط النسخ القديم فقد انتقل إلى الحجاز قبل الإسلام من مدينتي الحيرة والأنبار بجنوب العراق وكان يسمى بالحيري والأنباري. ثم انتشر مع انتشار الإسلام في مكة والمدينة وسمي بالمكي والمدني. استعمل في نسخ القرآن الكريم ، ويمتاز بقوة حروفه ونعومتها وسلاستها ، وهو خط مشكول يستعمل فيه التشكيل بمنتهى الدقة وعلى نطاق واسع ، لا سيما في كتابة المصحف والأحاديث النبوية والقصائد الشعرية. وله خاصية الامتدادات التي تتم بين الحروف كامتداد كاسات الحروف التي يركب عليها حرف الكاف الممدودة وغيره من الحروف القابلة للمد ، كما يتميز بحروفه الراجعة كحرفي الياء والألف المقصورة. وتكتب معظم حروف النسخ بعرض القلم كاملا، كما تكتب بعض جوانب الحروف بنصف القلم أو بثلـثه. والنسخ خط جميل مألوف قريب من النفس حتى لغير الخطاطين ، ذلك أن التلاميذ في العالم الإسلامي يتعلمون الكتابة العربية بخط النسخ أولا ، إضافة إلى تلاوة وحفظ القرآن الكريم المكتوب أصلا بخط النسخ ، علما بأن الكتب العلمية لجميع المواد الدراسية تطبع بهذا الخط حصرا. أما خط الثلث فهو أجمل الخطوط شكلا ، وأروعهـا منظـرا ، وأصعبها كتابـة وتعلمـا وإتقانـا ، فاستحق لـقب ( سيد الخط العربي ) بلا منازع. ويمتاز عن خط النسخ بكثرة المرونة ، واتساع كاسات الحروف ، ويمتاز عن غيره من الخطوط الأخرى بإمكانية تطويعه في اللوحات الخطية المركبة والمتداخلة والمرسلة ليعطي أشكالا فنية غاية في الكمال والإعجاز. وتستعمل عدة أقلام في كتابة اللوحة الثلثية الواحدة ، فقلم لكتابة الحروف ، وقلمان أقل عرضا للتشكيل الذي يعطي المخطوطة شكل السبيكة الذهبية التي يملؤها التشكيل والحلي واتصال الحروف ببعضها بقوة تتناسب وعظمة هذا الخط وفخامته. ويقتصر استعمال الثلث على كتابة العناوين وبعض الآيات والجمل في لوحات تاريخية تخلد ذكر الخطاط ، ويقل استعماله في كتابة المصاحف لصعوبته ولأنه يأخذ وقتا طويلا ، فقد يستغرق إنجاز لوحة ثلثية واحدة أسابيع عدة لا سيما إذا ما أضيف إليها الزخرفة والتذهيب.

وهكذا يتضح أن صور الحروف في كل نوع من أنواع الخط العربي لها طابع معين، فطابع الثلث الفخامة ، وطابع النسخ الجمال ، وطابع الرقعة السرعة ، وطابع الديواني الرشاقة والطواعية …( ففي الرقعة فإن رأس الحاء يشبه نصف باء مقلوبة ، وفي النسخ فإن رأس الكاف الثعبانية يشبه رأس الياء المفردة ، وفي الثلث فإن رأس الميم المدورة يشبه رأس الواو المقلوبة.)

   لقد انتصر الحرف العربي على حروف أمم الأرض كلها حيث حل، ففي بلاد فارس حلت الحروف العربية محل الحروف الفهلوية الفارسية، كما حلت محل الحروف الأوردية الهندوستانية ولغة أهل كشمير، وسادت بدلا من لغة أهل الملايو وجاوة والفلبين والصين ، كما تداولت الكتابة العربية الأمم التركية والتترية، ووصل الخط العربي إلى مسلمي سيبيريا بتأثير من مسلمي تركستان، وكان الأتراك هم الذين نقلوا الكتابة العربية إلى دول البلقان التي انتشر فيها الإسلام، كبلغاريا وألبانيا والبوسنة والهرسك، وقبل ذلك امتد الحرف العربي إلى شمال أفريقيا ومنها إلى اسبانيا والبرتغال. وعندما نشر المغاربة الإسلام في غرب إفريقيا، نشروا معه الخط العربي المتفرع من المغربي حوالي القرن السابع الهجري، وكان يسمى بالخط السوداني.

 وعرف شرق أفريقيا الخط العربي في اريتيريا والصومال والحبشة ومدغشقر، وكان للكتابة العربية شأن كبير في انتقال العلوم والمعارف المدونة في مخطوطات نادرة إلى أوربا عبر البلقان وعبر اسبـــانيا الإسلامية، وظـــل

كثير من كتب العرب في الطب والرياضيات والفلك والفلسفة وعلم النبات وعلم الاجتماع وغيرها يدرس في جامعات أوربا إلى عهود ليست بالبعيدة.

 الأقـلام والمـداد

  والعرب تكتب بسائر الأقلام والبرايات، وقد حرر الوزير ابن مقلة كلاما عن القلم واستعماله فقال: ” خير الأقلام ما استحكم نضجه في جرمه، ونشف ماؤه في قشره، وقطع بعد إلقاء بزره، وبعد أن اصفر لحاؤه، ورق شجره…” . كما رصد القلقشندي في “صبح الأعشى” وابن النديم في “الفهرست” أنواعا كثيرة لأقلام خطوط الثلث والمحقق، وخطوط ما بعد عصر ابن مقلة، ومنها أقلام: الطومار والنصف والثلث والثلثين ، والمدور والرياسي والنرجسي والريحـــان والمنثــور والمرصع واللؤلـؤي والرقاع.

 وكان حبر الخط يصنع من مواد متعددة، يؤلف الورد العنصر الأهم في صناعته، حيث يغلى ماء الورد ثم يقطر فتؤخذ عصارته (حثالته) وتوضع مع حديد صاد فيتأكسد الحديد ويتغير لون العصارة إلى الأسود، وربما يضاف إليها صمغ الأشجار لكي يلتصق الحبر بالورق. كما أن هناك أنواعا من الحبر تصنع من قشر البصل والأرز والباقلاء والحناء، يضاف إليها الكافور وماء الورد لتطيب رائحتها.

          *         *       *

 كان بشر بن عبد الملك الكندي أول من علم الكتابة للعديد من العرب قبل البعثة كما ذكرنا ، وكان من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأبو سفيان وابنه معاوية ، وسعيد بن العاص، وزيد بن ثابت، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن أبي سرح، والعلاء ابن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص (رضوان الله عليهم أجمعين) ، وكان أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم من قريش عبد الله بن سعد، وأول من كتب له عند مقدمه للمدينة أبي بن كعب الأنصاري، وكانوا يكتبون على جريد النخل، وعظام الجمل، وقطع الخزف والفخار والرق والبردي ، وفي نهاية القرن الأول الهجري تعلم العرب صناعة الورق على يد صناع من الصين أسرهم المسلمون حين فتحوا سمرقند.  

ولما انتقل مقر الخلافة إلى الكوفة أيام الخليفة الراشد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وإليها – أي الكوفة – ينسب الخط الكوفي، ظل هذا الخط متداولا ومفضلا حتى نهاية العقد الرابع الهجري. وكان الخليفة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) يكتب القرآن بيده، وهو الذي كتب صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو ممثلا لقريش في حينها. كما كان الحسن البصري –رحمه الله- من رواد الخط من التابعين وكان يقرب إليه الخطاطين في مجلسه. بعدها انتقل مركز العناية بالخط العربي إلى الشام (41هـ) مع استقرار الخلافة الأموية، فظهر فيها الخطاط قطبة المحرر الذي بدأ تحويل الخط العربي من قيود الخط الكوفي إلى قاعدة جديدة أكثر ليونة، فاخترع خط الطومار وخط الجليل.

ولما جاءت الدولة العباسية، ظهر الضحاك بن عجلان في خلافة أبي العباس السفاح، كما ظهر إسحق ابن حماد في خلافة المنصور والمهدي، وكانا يكتبان الجليل والطومار، ثم جاء إبراهيم الشجري –تلميذ إسحق بن حماد- واخترع قلما أخف سماه “خط الثلثين” ، وهكذا أمكن توليد أقلام جديدة بحيث أصبح عدد الأقلام العربية نحو عشرين نوعا”.  

 جاء الوزير العباسي محمد بن مقلة (272-328هـ) في زمن خلافة المقتدر بالله العباسي، فوضع المقاييس والمعايير الهندسية والجمالية للخط العربي، وقد سمي الخط الذي تنطبق عليه هذه المقاييس “محققا” والخط الذي لا تنطبق عليه هذه المعايير “دارجا”. 

يقوم قانون ابن مقلة على إيجاد علاقة ثابتة  بين الحروف بحيث يتحقق بها الاتساق والجمال . وعد حرف “الألف” هو المعيار الثابت ونسبت إليه الحروف جميعها. ومن العجيب أن ابن مقلة جعل طول حرف الألف مساويا لعرضه ثماني مرات وهي النسبة نفسها بين طول جسم الإنسان وطول رأسه!

وظل ابن مقلة يطور ويبدع في مجال الخط حتى عده الخطاطون والباحثون الأب الروحي لقواعد الخط العربي الأصيلة.

 بعد قرن من الزمان جاء ” علي بن هلال بن البواب” المتوفى عام 413 هـ ليكمل قواعد الخط وضوابطه، وعنه قال ابن خلكان من أهل القرن السابع الهجري: “لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كتب مثله ولا قاربه ” ، وهو الذي هذب طريقة ابن مقلة ونقحها وكساها طلاوة وبهجة.

 ثم جاء ” جمال الدين ياقوت بن عبد الله المستعصمي” الملقب بـ “قبلة الكتاب” في أواخر العهد العباسي والمتوفى عام 698 هـ ، فأوصل هذه الحركة الجمالية للخط العربي إلى غايتها، وكانت تعديلاته وإبداعاته منعطفا تاريخيا في إيصال قواعد الخط إلى غاية الوضوح والكمال.

وبعد المستعصمي انتقلت رياسة الخط إلى أقطاب الخط في الدولة العثمانية، فكان من الرواد العثمانيين الأوائل “حمد الله الأماسي” المعروف بابن الشيخ ، الذي اكتملت على يديه قواعد خط الثلث “سيد الخط العربي” المعروف إلى يومنا هذا.

ومن الرواد مير علي سلطان التبريزي واضع قواعد خط التعليق، والمستشار التركي ممتاز بك واضع قواعد خط الرقعة، وإبراهيم منيف واضع قواعد خط الديواني ، والحافظ عثمان أستاذ السلطان أحمد الثالث ومعاصرهما الخطاط عبد الله أفندي، ومصطفى راقم . ومن رواد الخط العربي أيضا السلطان العثماني محمود الثاني الذي كان يفخر بكونه أحد تلاميذ العملاق مصطفى راقــم ، وكان يكتب ذلك مع توقيعه بأسفل اللوحة!!

وظهر بعد القرن الحادي عشر الهجري جملة من أساتذة الخط منهم: اسماعيل المكي ، وسفيان الوهبي ، ونعمان الذكائي ،و درويش علي الفيضي ، وصالح السعدي الموصلي ، واسماعيل النوري البغدادي ، ومحمود جلال الدين ، وعمر الوصفي وغيرهم.

 جاء من بعدهم الأساتذة سامي أفندي ، وحسن رضا ، والشيخ محمد عبد العزيز الرفاعي، والشيخ موسى عزمي المعروف بحامد الآمدي ، وهو آخر شيخ للخطاطين على مستوى العالم الإسلامي توفي عام 1982م بعد أن ملأ المكتبات والساحات وجدران المساجد ومحاريبها بأروع ما يمكن أن ترى عين من إعجاز للخط!

ومن الخطاطين الأتراك أيضا عبد القادر أحمد ، ومحمد شفيق ، ومصطفى عزت ، وعبد الله بك الزهدي “كاتب الحرمين الشريفين” ، والحاج أحمد العارف ، وأحمد كامل ، ومن مصر برز حسني البابا الدمشقي ، والشيخ علي بدوي ، ومصطفى غزلان بك ، ومحمد علي المكاوي ، وسيد إبراهيم الملقب بعميـــد الخط العربي ، ونجيب هواويني ، ومحمود الشحات ، ومن سوريا ممدوح الشريف ، ويوسف رسا ، وبــدوي الديــراني ، وحلمي حباب، ومن العراق هاشم محمد البغدادي ، ويوسف ذنون الموصلي، وجاسم البغدادي ، ومن لبنان برهان كبارة ، وأديب نشابة ، ومن تونس محمد الصالح الخماسي ، ومن المغرب عبد الكريم الوزاني ، ومن السعودية محمد طاهر الكردي  وأحمد ضياء ، وعبد الرحيم أمين ، وصالح الصميت، وأحمد العبدان ، وناصر الميمون، يضاف إلى هؤلاء الأساتذة  آل الكردي  ، وآل زايـــــد في مصر، وآل مكارم في لبنان ، وآل البـيـرم شرقي سوريا ، هـؤلاء

العمالقة الذين حافظت أصابعهم الأمينة على هذا التراث الحضاري العربي الإسلامي العريق والثمين عبر العصور.

المرأة وفن الخط العربي

   ولا يفوتنا أن نذكر ماكان للمرأة من حضور متميز في هذا الميدان منذ صدر الإسلام وإلى اليوم إذ برزت منهن: عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ، وكريمة بنت المقداد ، وهند بنت أبي سفيان ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم كلثوم بنت عقبة ، والشفاء بنت عبد الله العدوية ، وفروة بنت عائشة بنت سعد…وغيرهن ، وبرزت في كل مرحلة تاريخية مجموعة من النساء الخطاطات اللواتي جودن الكتابة، وعرفن بحسن الخط مثل: عريب الشاعرة الخطاطة البصرية المتوفاة عام 277 هـ ، وفضل مولاة أبي أيوب التي كتبت مصحفا كاملا سنة 295 هـ ، ولبنى بنت عبد المولى كاتبة المستنصر بالله المتوفاة سنة 374هـ ، وفاطمة بنت الأقرع المتوفاة ببغداد سنة 480 هـ ، وشهدة الدينـورية البغـدادية المتوفاة سنة 574 هـ ، وخديجة بنت يوسف بن غنيمـة البغـدادية المتوفاة سنة 699 هـ ، وعائشة الياعونية المتوفاة سنة 922 هـ ، وكلثوم بنت عمر النابلسية المتوفاة سنة 856 هـ ، وزينب بنت محمد الغزي المتوفاة سنة 980 هـ ، وحليمة بنت محمد صادق التي نالت الإجازة في الخط من أستاذها محمد راسم سنة 1169 هـ ، والخطاطة الكبيـــرة أسماء عبرت التي تتلمذت على يد زوجها العملاق محمود جلال الدين ونالت الإجازة منه ، وغيرهن الكثيرات. 

تروي لنا المصادر التاريخية الكثير من أخبار النساء الخطاطات ، منها أنه كان في شرقي قرطبة في عصور الأندلس المزدهرة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي.

*      *      *

كان للمدرسة السلجوقية الأتابكية فيما بين القرنين العاشر والثالث عشر فضل تجويد الطومار الكبير “خط الثلث وخط الثلثين” ، وخط النسخ، وتعتبر خطوط المصاحف السلجوقية من أجمل ما كتب بخط النسخ على مر العصور.   

 أخذت المدرسة التركية عن السلاجقة خط النسخ ، وعن المصرية خط الثلث وخط الثلثين ، ثم أضافت من عندها خط الرقعة والخط الديواني. أضاف الأتراك بعد ذلك خطين جديدين هما “الإجازة” وهو مزيج من النسخ والثلث ، و”الهمايوني” وهو مشتق من الديواني، ويعرف باسم “جلي الديواني” .

 وقد اشتهر الفرس بتذهيب المخطوطات ، ونقل الأتراك هذا الفن عنهم. ذلك أن التذهيب لازم لتزيين المصاحف والكتب الدينية والأدبية ودواوين الشعر ، وغيرها. وعندما ألغى كمال أتاتورك الخلافة ، ألغى معها الكتابة العربية في تركيا ، وفي اليوم التالي لإلغاء الكتابة بالعربية تم إقفال ثلاثمائة محل لتعليم وكتابة الخط العربي في اسطنبول وحدها !   فأنشئ معهد تحسين الخط العربي في مصر عام 1922م على يد الخطاط التركي الكبير الشيخ محمد عبد العزيز الرفاعي المتوفى سنة 1934م.

     وإذا استعرضنا ما أنتجته الحضارة الإسلامية في العمارة والفنون التطبيقية نجد أن النصوص الخطية أدت دورا تشكيليا أساسيا سواء أكان ذلك في الجص أو الرخام أو الحجر أو الزجاج أو المعادن أو الخزف أو النسيج أو المخطوطات، حيث نراها متكاملة بجمال ساحر من الناحية التشكيلية مع الشكل العام ومع أنواع الزخارف الأخرى الهندسية والنباتية . ونستطيع أن نتعرف من خلال الكتابات التي استعملت في هذه التحف على جميع القيم التشكيلية من خط ، ولون ، وظل ، ونور  وانعكاس ، وتلامس في السطوح ، بحيث يمكن أن نقول : إن الكثير من

فنون العمارة الإسلامية المزينة بالزخارف والكتابات ، إضافة إلى التحف الإسلامية المختلفة تقف – من الناحيــة التشـكيــليـة – على قدم المساواة مع أحسن الصور الجدارية وأعرق اللوحات التي أنتجتها عبقرية الفنانين الغربيين ، طالما رفعنا رؤوسنا عاليا ونحن نراها شامخة في متاحف الغرب .

    وقد تنوع استعمال الخط كعنصر تشكيلي بحيث أعطى لكل إقليم من الأقاليم الإسلامية شخصية خاصة به في إطار الشخصية الإسلامية العامة، فاستعمال الكتابة في الطراز المغربي والأندلسي يختلف عن استعمالها في الطراز الشامي أو التركي أو الإيراني ، لهذا اكتسب الخطاطون أهمية خاصة  وحظوا برعاية متميزة واهتمام زادهم شرفا ورفعة في المجتمع ، ذلك أن الكثير من الملوك والسلاطيــن والأمراء والولاة والأثـرياء  اشتغلوا واهتموا بتجويد الخط ، وهو ما أسهم في تطويره وتنويع أساليبه وفي تنافس الخطاطين ليصلوا إلى درجة رفيعة من الكمال والإبداع.

 ومما يدل على شرف الكتابة قوله تعالى: “اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك   

 الأكرم. الذي علم بالقــلم. علم الإنسان ما لم يعلم“. – سورق العلق –

وقوله تعالى: “ن. والقلم وما يسطرون“. – سورة القلم –

وقوله تعالى في وصف الملائكة: ” كراما كاتبين“. – سورة الانفطار –

  وجاء في الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام: ” قيدوا العلم بالكتابة ” – رواه الطبراني- ، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إن من حق الولد على والده أن يعلمه الكتابة ، وأن يحسن اسمه ، وأن يزوجه إذا بلغ” – رواه ابن النجار عن أبي هريرة رضي الله عنه.

 وفي القديم قال أفلاطون: ” الخط عقال العقل”. وقال إقليدس: ” الخط هندسة روحانية “. وقال النظّام: “الخط أصيل في الروح ، وإن ظهر بحواس البدن “. وقال العتابي: “الأقلام مطايا الفطن” . وقال: ” ببكاء القلم تبتسم الكتب”. وقال أحمد بن يوسف: “ما عبرات الغواني في خدودهن بأحسن من عبرات الأقلام في خدود الكتب”. وقال عبد الحميد الكاتب : “الخط أحسن اللسانين ، وحسنه إحدى الفصاحتين . ما أعجب شكل القلم يشرب ظلمة ، ويلفظ نورا..!”

 سئل الصولي عن صفات الخط الجيد فقال: ” إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق قرطاسه، ولم تختلف أجناسه، وتناسب دقيقه وجليله ، وخيل إليك أنه يتحرك وهو ساكن.”    

    وقد قيل في بيان فضل الكتابة ومدحها: إنها بلغت بقوم مبلغ الملوك، وأعطتهم زمام الخلافة، فنال الخلافة أربعة من الكتاب الخطاطين هم: عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان. إضافة إلى العديد من سلاطين الدولة العثمانية.  الذين كانوا يجيدون كتابة الخط العربي وتذهيبه.

    وقال ابن حبيب الحلبي: الخط أشرف الوظائف والمناصب، وأرفع المنازل والمراتب، وأفلح صناعة، وأربح بضاعة، قطب دائرة الآداب، وصدر أسرار الألباب، رسول صادق، ولسان بالحق ناطق، وسيف تحد بحده المعارف، وميزان يميز التالد من الطارف، تلحق خبر الحاضر بالغائب، وإليها تنتهي الآمال والرغائب، وبها تثم النعمة ، وتفضل شذور الحكمة. 

 ليس في يد البشر كتاب قدر له التوثيق والحفظ والخلود إلا القرآن العظيم، وصدق الله تعالى إذ يقول:

 ” إن علينا جمعه وقرآنه ” ،  ويقول: ” إنا نحن نزلنـا الذكـر وإنا له لحافظـون” ، وقد قيض الله له الحفظ بما لم يقيــض لغيره من الكتب، ضمانا لخلوده وهيمنــته ، فقـيض له الحفظ في الصــدور، كما قيض له الحفــظ في السطور ، فكم من روائع الصفحات القرآنية سطرت بأيدي الخطاطين الأمناء في كل جيل، وهي تنم عن الجهد البالغ في حفظه وجمال تسطيره ما بين مخطوط ومطبوع! ونص القرآن المحفوظ والمسطور هو كما هو من يوم أن نزله الله وإلى أن تقوم الساعة وكما أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم لكتبة الوحي الذين كانوا يتناقلونه بأمانة عجيبة وحرص لم تشهد البشرية له مثيلا!

الكـتـّّـاب المعروفون بعلمهم للقراءة والكتابة

عند نزول القرآن الكريم

1- أسعد بن زرارة                            2- أسيد بن حضير                            3- أبو عبس بن جبر

4- أوس بن خولى                            5- بشير بن سعد                              6- جهيم بن الصلت

7- رافع بن مالك                              8- زيد بن أرقم                                9- زيد بن ثابت

10- سعد بن الربيع                           11- سعد بن عبادة                            12- شرحبيل بن حسنة

13- عبد الله بن عمرو بن العاص 14- معن بن عدي                            15- المنذر بن عمرو

                                                  16- كعب بن عدي

الكـتـّّـاب في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

1- عثمان بن عفان                            2- زيد بن ثابت                               3- عبد الله بن الأرقم

4- خالد بن سعيد                              5- خفطان بن الربيع

الكـتـّّـاب في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

1- زيد بن ثابت                               2- عبد الله بن الأرقم                         3- خالد بن سعيد

      4- أبو جبرة بن ضحاك الأنصاري

الكـتـّّـاب في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه

1- عبد الله بن الأرقم                         2- أبو جبرة الأنصاري                      3- مروان بن الحكم

4- عبد الملك بن مروان                     5- أهيب مولى عثمان                        6- حمران مولى عثمان

       7- أبو غطفان بن عوف بن سعد بن نيار

الكـتـّّـاب في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

1- عبد الله بن جبير                           2- عبيد الله بن أبي رافع                     3- عبد الله بن جعفر

4- سعيد بن حمران الهمذاني

صفات الخطاطين وألقابهم

      إن الخطاطين يغلب عليهم الإحساس الرقيق ، وهم أصحاب شعور مرهف، كما يلاحظ فيهم دماثة الأخلاق، ولين الجانب، وكثير منهم عنده قدرةعلى التحمل والصبر.  ويميل الخطاطون إلى الهدوء والأعمال البعيدة عن الإرهاق النفسي أو العصبي، فجميعهم يمارسون أعمالا تهواها  أنفسهم ، وتنمو في نفوسهم حاسة الجمال بشكل ظاهر، فلا ترتاح نفس أحدهم مثلا إذا رأى حرفا معوجا  أو غير سليم في شكله ، وهم محبون لتذوق الأشكال المختلفة الجميلة ، والخطوط الجيدة. ومن الطقوس المتعارف عليها عند الخطاطين أن يتطهر الخطاط ويتوضأ قبل البدء بالكتابة لما لها من قدسية في نفسه ، ولما لها من ارتباط عقائدي في روحه ، لاسيما عندما يكتب آيات من القرآن الكريم ، او يخط صفحات من السنة المطهرة ، أو يسطر بعضا من المأثورات والحكم والشعر وسحر البيان!

    وقد أطلقت على عظمــاء الخطاطيــن في التاريخ الإسلامي ألقاب مشهورة ؛  فقيـــل عن ابــن مقـلــــة         ” الوزير الخطاط ” ،  ولقب ياقـوت المستعصمي بـ” قبــلة الكتاب ” ،  ولقب حمـد الله الأمـاسي بـ ” شيخ الخطاطين ” ، ولقب درويش علي  بـ” الشيخ الثاني ” ، و الحافظ عثمان بـ ” الشيخ الثالث”  ولقب أحمد القــره حصاري بـ” قطـب الخـط ” ، ويقال إنه هو الذي أدخل الخط إلى تركيا في زمانه ، كما لقب عبد الله الزهــدي بـ” خطاط الحرمين ” ، ولقب أبو نسر إسماعيل حماد الجوهــري بـ” افتخــار الأشـراف ” ،  ولقب الشيخ محمـد عبـد العزيـز الرفــاعـي بـ”  أمير الخط في القرن العشرين ” ، ولقب جـواد شريفي بـ” ملك الخطاطين ” ، وأطلق على سيد إبراهيم لقب ” عميد الخط العربي ” .

      لم تكن الكتابة العربية مجرد أداة لنقل الأفكار والمعاني كما هو الحال في الكثير من كتابات الأمم ولغاتها ، بل كانت مجالا خصبا للتفنن ، والتنوع في الإبداع ، اجتمعت لها أسرار العبقرية العربية والإعجاز الفني بحيث أصبحت كلـغـة تشكيلية متكاملـة وجها أصيلا للحضارة العربية والإسلامية .

                                                                    الخطاط عبد الباسط إبراهيم النهار البيرم

  المـراجـع:

                            *   بدائع الخط العربي                       ناجي زين الدين المصرف

                            *  الخط العربي – جذوره وتطوره         إبراهيم ضمرة

                            *  الخط العربي – أصله وتطوره          الخطاط سيـد إبـراهـيـم

                            *  مجلة الفيصل – العدد 209

                            *  روائع خط الثلث                           فوزي سالم عفيفي

                            *  تاريخ الخط العربي                       أحمد صبري زايد

                            *  إجازات الخطاطين                        أسامة النقشـبندي

اترك تعليقاً